التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
استمرَّ حكم المسلمين في الأندلس أكثر من ثمانية قرون حفلت بالمظاهر الرائعة للتكافل بين المسلمين، ورعاية شئون المكروبين والمحتاجين، يتناول الدكتور راغب
التكافل والإغاثة في الدولة الإسلامية بالأندلس (92 – 897هـ)
استمرَّ حكم المسلمين في الأندلس أكثر من ثمانية قرون حفلت بالمظاهر الرائعة للتكافل بين المسلمين، ورعاية شئون المكروبين والمحتاجين، وسوف نتناول مظاهر هذا التكافل من خلال ما يلي:
عهد عبد الرحمن الداخل (138 - 172هـ):
جاء أحد الناس إلى عبد الرحمن الداخل وطلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال: "إذا ألمَّ بك خَطْبٌ أو حَزَبك أمر فارفعه إلينا في رُقعةٍ لا تعدوك؛ كي نستر عليك، وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عَزَّ وجهُه- بإخلاص الدعاء وصدق النيَّة"[1].
فهو ليس واسع الكرم فحسب؛ بل هو يريد أن يُعطي الرجل مع كونه يستره، وفوق ذلك هو يُعلِّمه أن يجعل توجُّهه أوَّلًا لله عز وجل، وهذا يدلُّ على نفسٍ متواضعةٍ ويدٍ سخيَّة.
عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل (172 – 180هـ):
على الرغم من انشغاله بالحروب والجهاد وقِصر فترة حكمه التي لم تتجاوز الثماني سنوات إلَّا أنَّه كان يتصدَّق بالصدقات الكثيرة، وربَّما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر، ومعه صرر الدراهم يتحرَّى بها المساتير، وذوي البيوتات من الضعفاء، لم يزل هذا مشهورًا من أمره إلى أن مات[2].
عهد الحكم بن هشام (180 – 206هـ):
اتَّسم عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بكثيرٍ من الأعمال التكافليَّة والإغاثيَّة؛ "فقد ابتنى المستنصر في غرب جامع قرطبة دارًا للصدقة، واتَّخذها معهدًا لتفريق صدقاته المتوالية، وابتنى الفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي"[3].
كان الحكم مغيثًا للضعفاء وللنساء اللاتي اعتدى عليهنَّ العدوُّ الصليبيُّ في شمال الأندلس؛ ففي عام 194 من الهجرة، غزا الحكم هذه البلاد، وكان السبب في هذه الغزوة أنَّ عباس بن ناصح الشاعر بمدينة الفرج "وادي الحجارة"، وكان العدو -بسبب اشتغال الحكم بماردة وتوجيه الصوائف[4] إليها مدَّة من سبعة أعوام– قد عظمت شوكته، فشنَّ الغارات في أطراف الثغور، يسبي ويقتل، وسمع العباس بن ناصح امرأةً في ناحية وادي الحجارة، وهي تقول: واغوثاه يا حكم! قد ضيَّعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنَّا، حتى استأسد العدوُّ علينا. فلمَّا وفد عبَّاس على الحَكَم، رفع إليه شعرًا[5] يقول فيه:
تململت في وادي الحجارة مسئدًا أراعي نجومًا ما يرون تغيرًا
إليك أبا العاصي نضيت مطيتي تسـير بهمٍّ ساربًا ومهجّرا
تداركْ نساء العالمين بنصرة فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا[6]
فقد ذكر عباس بن ناصح قول المرأة واستصراخها به، وأنهى إليه ما عليه الثغر من الوهن وضعف الحال، فرثى الحَكَمُ للمسلمين، وحمي لنصر الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازيًا إلى أرض الشرك، فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيرًا، وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها المرأة، وأمر لأهل تلك الناحية بمالٍ من الغنائم، يصلحون به أحوالهم، ويفدون سباياهم، وخصَّ المرأة وآثرها، وأعطاهم عددًا من الأسرى عونًا، وأمر بضرب رقاب باقيهم، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة: هل أغاثكم الحكم؟ قالوا: شفى والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنَّا إذ بلغه أمرنا! فأغاثه الله، وأعزَّ نصره"[7]. وحينما وقعت المجاعة الشديدة بالأندلس عام 199هـ وعانى المسلمون منها ضروب الحرمان والبؤس، ومات كثيرٌ من الناس جهدًا، بادر الحَكَمُ إلى تخفيف الألم والبؤس والحرمان عنهم، فأخرج لهم الأموال، وأعطى الفقراء والجائعين، حتى أزاح الله الغمَّة، وكشف الكربة[8].
كذلك اهتمَّ الحَكَمُ بالعلماء وقرَّبهم وأعطاهم الكثير من الأموال، واهتمَّ بإنشاء المكاتب لطلَّاب العلم، ووقف عليها الأوقاف، فيُذكر أنَّه أقام في ساحة المسجد الجامع بقرطبة، وحوله بعد الزيادة التي أضافها إليه ثلاثة مكاتب لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين، وأقام كذلك أربعة وعشرين مكتبًا في أرباض قرطبة، كما حبس حوانيت السرَّاجين بسوق قرطبة على المعلِّمين بهذه المكاتب، وأشهد على ذلك القاضي محمد بن إسحاق، وجعل للعلماء جانبًا من دار الملك يجلسون فيه للتأليف والنسخ والترجمة والمقارنة[9].
عهد عبد الرحمن بن الحكم (206 – 238هـ):
في عهد عبد الرحمن بن الحكم واجه مجاعةً كبيرةً في بداية عهده في عام 207هـ، وكان سببها انتشار الجراد الأصفر بالأرض، وتردُّده بالجهات، فنالت الناس مجاعة عظيمة، وقد اجتهد الناس في الدعاء وسقاهم الله عز وجل ليومهم، وقام الأمير عبد الرحمن بن الحكم بإطعام الضعفاء والمساكين من أهل قرطبة[10].
عهد المنذر بن محمد (275 – 300هـ):
في بداية عهد الأمير المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، فرق العطاء في الجند، وتكافل مع الرعيَّة في إسقاط عُشر العام عنهم، وما يلزمهم من جميع المغارم[11].
عهد عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ):
في عهد أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقَّب بالناصر في عام 303هـ بدأت مجاعة شديدة؛ فقد بلغت الحاجة بالناس مبلغًا لا عهد لهم بمثله، وبيع قَفِيز قمح سوق قرطبة بثلاثة دنانير، ووقع الوباء بالناس، وكثر المَوَتانُ في أهل الفاقة والحاجة حتى كاد يُعجز عن دفنهم، فكثرت صدقات الأمير عبد الرحمن الناصر على المساكين في هذا العام، وصدقات أهل الحِسْبة من رجاله، فكان الحاجب بدر بن أحمد أكثرهم صدقة، وأعظمهم بماله مواساة[12]. وفي عام 317هـ وقع المـَحْل بالأندلس واحتبس الغيث، واضمحلَّت الزروع، وعزت الأقوات، وغلت الأسعار، فأمر الناصر خطيب المسجد الجامع بالحضرة بالاستسقاء، فبدأ بذلك في خطبة الجمعة التالية، ثم برز بالناس إلى مصلَّى الربض يوم الاثنين الثامن من شهر صفر من عام 317هـ، فلم يسقط الغيث، واستمَّر المـَحْل والقحط، وجهدت الناس، وخرجت كتب الناصر إلى جميع العمال على الكور بالأمر بالاستسقاء، وكان الكتاب إلى جميع العمَّال بصيغة واحدة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد فإنَّ الله عز وجل إذا بسط رزقه وأغدق نعمته، وأجزل بركاته، أحب أن يشكر عليها، وإذا رواها وقبضها، أحب أن يُسأَلها، ويُضرع إليه فيها، وهو الرزاق، ذو القوة المتين، والتواب الرحيم، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وهو الذي ينزل الغيث بعدما قنطوا، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد، فأوجبت به الرغبة، عزَّ وجهه فيه، والخشوع لعزَّته، والاستكانة له، والإلحاح في المسألة فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة التي توجب سخطه منه، وتبذل نقمته، وتستروحه رضاه، تعالى جَدُّه. وقد أمرنا الخطيب فيما قبلنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة، والجمعة الثانية التي تليه، إن أبطأت السقيا، والبروز يوم الاثنين بعدها لحماية المسلمين عندنا إلى مصلاتهم، أو يأتي الله قبل ذلك بغيثه المعني عنه، ورحمته المنتظرة منه، المرجوة عنده، فمر الخطيب بموضوعك أن يحتمل على مثل ذلك، ويأخذ به من قبله من المسلمين، وليحملهم بذلك المحمل، ولتكن ضراعتهم إلى الله تعالى، ضراعة من قد اعترف بذنبه، ورجا رحمة الله، والله غفور رحيم. وهو المستعان لا شريك له إن شاء الله"[13].
وفي سنة 324هـ أصاب الأندلس قحطٌ آخر لم تُصب بمثله من قبل، فاحتبس المطر، وجفَّت الزروع، ومع ذلك فلم يترك هذا المحل وراءه كثيرًا من الآثار المخربة، ويقول لنا ابن حيان: إنَّ البركات والخيرات استمرَّت ذائعة بين الناس في سائر الجهات، وبذل الناصر لمعونة الناس ما جبر النقص في المحل، وانهمل الغيث في العام التالي، وقد نظم الشاعر عبد الله بن يحيى بن إدريس في ذلك قصيدةً في مديح الناصر، هذا مطلعها:
نعم الشفيع إلى الرحمن في المطر مستنزل الغيث بالأعذار والنذر[14]
وعاد المحل والقحط يعصف بالأندلس في سنة 329هـ، وتوقَّف المطر، وعمَّ الجفاف، وشرع قاضي الجماعة، وصاحب الصلاة محمد بن أبي عبد الله بن عيسى في إقامة صلاة الاستسقاء في يوم الجمعة من ربيع الآخر، ولكن المـَحْل تمادى، وبرز الناس إلى مصلَّى الربض مرارًا وتكرارًا، وفي (الثاني عشر من جمادى الأولى= أول فبراير)، بدا نوءٌ غليظٌ وسحابٌ كثيفٌ ونزل الثلج طوال اليوم وغطَّى الأرض، ثم نزل المطر والثلج، وانقطع دون أن يروي الأرض، فعاد القاضي إلى الاستسقاء حتى استجاب الله لعباده بعد أيام قلائل، وبدأ الناس في الزرع، وتوالى نزول الغيث، واستسق الناس سقيًا وافيًا، ورويت الأراضي والمزارع، وهبطت الأسعار وعاد الرخاء[15].
وممَّا ذكره لنا ابن حيان من الحوادث الداخلية في سنة 342هـ، وقوع الحريق العظيم بمدينة قرطبة؛ ففي أوائل شهر شعبان من هذه السنة، شبَّت النار بسوق قرطبة، فأحرقت جميع مجالس الحصاد، واتَّصل الحريق بحيِّ الصرافين، وما جاور مسجد أبي هارون، فاحترق وتداعى المسجد، ثم اتَّصلت النار بسوق العطَّارين، وما جاوره من الأسواق والأحياء، واتَّسع نطاقها بصورةٍ مرعبة، وكان حريقًا شنيعًا مروع الآثار. وقد أمر الناصر بعد انتهائه وانجلاء آثاره، أن يُعاد بناء مسجد أبي هارون، فأُعيد على أحسن حال، وأمر الناصر كذلك بإعادة بناء ما تهدَّم من الدور والصروح العامَّة[16].
عهد الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366هـ):
خلف الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر أباه في حكم الخلافة، وقد كان محبًّا للعلم وأهله، مهتمًّا بأحوال المسلمين وخاصة الفقراء منهم؛ فقد ابتنى المستنصر بغرب الجامع دار الصدقة، اتَّخذها معهدًا لتفرق صدقاته، ومن مستحسنات أفعاله وطيِّبات أعماله، اتِّخاذه المؤدبين يُعلِّمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن، وبكل ربضٍ من أرباض قرطبة؛ وأجرى عليهم المرتَّبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح، ابتغاء وجه الله العظيم، وعدد هذه المكاتب سبعة وعشرون مكتبًا، منها حوالي المسجد الجامع ثلاثة، وباقيها في كلِّ ربضٍ من أرباض المدينة[17].
التكافل والإغاثة في الدولة العامرية (366 – 399هـ):
جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنَّه سَيَّر جيشًا كاملًا؛ لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنَّه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، ومن شروط هذا العهد ألَّا يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار قاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثةً من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم، فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهنَّ عن ذلك قلن له أنهنَّ أسيرات في ذلك المكان، فغضب رسول المنصور غضبًا شديدًا وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلَّا أن سيَّر جيشًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى مملكة "نافار" دُهش ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم؟ وقد كانت بيننا وبينكم معاهدةً على ألا نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وفي استعلاء للحقِّ من غير كبرٍ ردُّوا عليه: بأنَّكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهنَّ. فذهب الرسول إلى الكنيسة، وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إنَّ هؤلاء النسوة لا نعرف بهنَّ؛ فقد أسرهنَّ جنديٌّ من الجنود، وقد عُوقِب هذا الجندي. ثم أرسل برسالةٍ إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه الثلاث نساء[18].
إغاثة المرابطين للأندلس:
حدث تفكُّكٌ كبيرٌ في بلاد الأندلس بعد سقوط الدولة الأمويَّة هناك في أوائل القرن الخامس الهجري، ممَّا أدَّى إلى تسلُّط الممالك النصرانيَّة على بلاد الأندلس وإسقاط عددٍ من المدن الإسلاميَّة المهمَّة، حتى سقطت طليطلة سنة 478هـ[19]. وبات الأمر في منتهى الخطورة، وأمام هذا التدهور المروِّع لجأت مجموعةً من أمراء وعلماء الأندلس إلى زعيم دولة المرابطين يستغيثون به لينجدهم من هجوم النصارى عليهم.
ودولة المرابطين هي دولة إسلاميَّة عظيمة، كانت تحكم ثلث إفريقيا في ذلك الوقت، وكان مركزها في المغرب، وكانت تحت قيادة البطل الإسلامي المشهور يوسف بن تاشفين.
لم يتردَّد يوسف بن تاشفين رحمه الله، ولم يتأخَّر؛ بل قام من فوره يعدُّ العدَّة، ويُجهِّز الجيوش، وعبر توًّا إلى الأندلس، والتقى مع الصليبيِّين في موقعةٍ خالدةٍ فاصلةٍ هي موقعة الزلاقة سنة 479هـ[20]، وفيها انتصر انتصارًا ساحقًا على الصليبيِّين، ودمَّر جيوشهم، ونَعِمَت الأندلس بالأمان عشرات من السنين بعد هذه الموقعة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ يوسف بن تاشفين رفض أن يأخذ شيئًا من الغنائم بعد هذا الانتصار العظيم؛ بل ترك كل شيءٍ للمسلمين في الأندلس[21]؛ ليُثبت تجرُّده الكامل في نصرة المسلمين، ونجدة المكروبين، وإغاثة الملهوفين، لا يرجو بذلك أجرًا إلَّا من الله عز وجل.
فما أعظمه من قائد! وما أروعه من تاريخ!
وقد أدَّى هذا الاستقرار السياسي الذي شهدته الأندلس في عهد المرابطين إلى استقرار اقتصادي، وظهر ذلك بارزًا في تعامل المرابطين مع طبقات المجتمع المختلفة؛ إذ حرصوا على إلغاء الضرائب الباهظة عن التجار؛ حرصًا منهم على أن يعيش المسلمون عيشةً كريمة، وأن يتوافر لهم حد الكفاية لا حد الكفاف، فأصبحت الفئات الفقيرة في المجتمع موضع اهتمام أمير المسلمين؛ فالصنَّاع والحرفيُّون أصبحوا يُشكِّلون جانبًا كبيرًا من المجتمع الأندلسي، وازدهرت كذلك مكانة المزارعين، وزاد إقبالهم على الزراعة بسبب تلك السياسة الضريبيَّة الحكيمة[22].
إغاثة دولة بني مرين للأندلس:
في سنة 673 هجرية ساءت حالة غرناطة الإسلاميَّة جدًّا، بعد سقوط معظم الحواضر الإسلامية في أيدي الصليبيِّين، وكان على زعامة غرناطة في ذلك الوقت محمد الفقيه بن الأحمر، ورأى هذا الزعيم أنَّ غرناطة هي الأخرى ستسقط قريبًا تحت أقدام ألفونسو العاشر ملك قشتالة، ولذلك أسرع محمد الفقيه بالاستغاثة لدى زعيم دولة بني مرين، التي كانت تشمل المغرب وبعض المناطق حولها، وكان هذا الزعيم البطل الإسلامي العظيم يعقوب المنصور المريني رحمه الله.
استجاب المنصور المريني فورًا لنداء محمد الفقيه، وجهَّز جيشًا من خمسة آلاف رجل[23]، وانطلق بهمَّةٍ عاليةٍ يعبر مضيق جبل طارق، والتقى مع جيش قشتالة الصليبي في موقعة فاصلة، كان قائد الصليبيِّين في هذه الموقعة يُدعى دون نونيو دي لاري، ولذلك تُعرف الموقعة التي دارت باسمه، وهي موقعة "الدونونية"[24]، وكان ذلك في سنة 674 هجرية، وفيها انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا، ودُمِّر جيش قشتالة الكبير، الذي كان يربو على تسعين ألفًا[25]، وأُسِرَ عددٌ كبيرٌ من جنوده، وقام المنصور المريني بعملٍ جليلٍ أنقذ به ثروةً من علوم المسلمين؛ حيث بادل الأسرى الصليبيين بمجموعٍة كبيرةٍ من الكتب العلميَّة التي استولى عليها النصارى قبل ذلك من مكتبات إشبيليَّة وقرطبة وطليطلة[26]، وبذلك لم يكن المنصور المريني رحمه الله منقذًا غرناطة فقط؛ بل كان منقذًا -كذلك- لحضارة المسلمين.
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] المقري: نفح الطيب 3/39.
[2] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص8.
[3] حسين مؤنس: موسوعة تاريخ الأندلس 1/501.
[4] المقصود بالصوائف: حملات الجهاد خلال شهور الصيف.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار المغرب 2/73، 74.
[6] محمد محمد زيتون: المسلمون في المغرب والأندلس ص285، 268.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار المغرب 2/73، 74.
[8] محمد زيتون: المسلمون في المغرب والأندلس ص290.
[9] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار المغرب 2/240 بتصرف.
[10] ابن حيان القرطبي: المقتبس في تاريخ الأندلس ص225 بتصرف.
[11] محمد محمد زيتون: المسلمون في المغرب والأندلس ص316.
[12] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار المغرب 2/168 بتصرف.
[13] ابن حيان في السفر الخامس- لوحة 102 أ و ب، هذا نقلًا عن محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس الخلافة الأموية والدولة العامرية 2/423 - 425.
[14] ابن حيان في السفر الخامس- لوحة 105 أ.
[15] ابن حيان في السفر الخامس- لوحة 181.
[16] ابن حيان في السفر الخامس- لوحة 150 أ.
[17] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار المغرب 2/240.
[18] المقري: نفح الطيب 1/404.
[19] الحميري: الروض المعطار 1/395، والمقري: نفح الطيب 4/447.
[20] المقري: نفح الطيب 4/354.
[21] السابق: 4/369.
[22] حمدي عبد المنعم: التاريخ السياسي والحضاري للمرابطين ص338، 339 بتصرف.
[23] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة 1/565، وابن خلدون: العبر 4/370، 393، 7/396- 399، 408، 409، 794.
[24] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة ص48، وانظر: المقري: نفح الطيب 1/449.
[25] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص536 وما بعدها، نقلًا عن ابن أبي ذرع: الذخيرة السنية ص149، 150، 159، حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس ص447.
[26] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 7/209، 210، والمقري: نفح الطيب 2/639، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/106، وانظر: طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور ص419.
التعليقات
إرسال تعليقك